فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكان علي رضي الله عنه يقول: بي خفف الله عن هذه الأمة.
وعدم عمل غيره لا يقدح فيه لاحتمال أن يكون لم يجد عند المناجاة شيئًا أو أن لا يكون احتاج إلى المناجاة.
ولما دل ختم الآية على التخفيف، وكان قد يدعي مدعون عدم الوجدان كذبًا فيحصل لهم حرج، وكان تعالى شديد العناية بنجاة هذه الأمة، دل على لطفه بهم بنسخه بعد فرضه.
فقال موبخًا لمن يشح على المال نادبًا إلى الخروج عنه من غير إيجاب: {أأشفقتم} أي خفتم من العيلة لما يعدكم به الشيطان من الفقر خوفًا كاد أن يفطر قلوبكم {أن تقدموا} أي بإعطاء الفقراء وهم إخوانكم {بين يدي نجواكم} أي للرسول صلى الله عليه وسلم، وجمع لأنه أكثر توبيخًا من حيث إنه يدل على أن النجوى تتكرر، وذلك يدل على عدم خوفهم من مشقة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ووجود خوفهم من فعل التصدق فقال: {صدقات} وكان بعضهم ترك وهو واجد فبين سبحانه رحمته لهم بنسخها عنهم لذلك في موضع العقاب لغيرهم عند الترك.
ولما كان من قبلنا إذا كلفوا الأمر الشاق وحملوا على التزامه بمثل رفع الجبل فوقهم، فإذا خالفوا عوقبوا، بين فضل هذه الأمة بأنه خفف عنهم، فقال معبرًا بما قد يعشر بأن بعضهم ترك عن قدرة: {فإذ} أي فحين {لم تفعلوا} أي ما أمرتم به من الصدقة للنجوى بسبب هذا الإشفاق {وتاب الله} أي الملك الأعلى الذي كان من شأن ما هو عليه من العظمة أن يعاقب من ترك أمره {عليكم} أي رجع بمن ترك الصدقة عن وجدان، وبمن تصدق وبمن لم يجد إلى مثل حاله قبل ذلك من سعة الإباحة والعفو والتجاوز والمعذرة والرخصة والتخفيف قبل الإيجاب ولم يعاقبكم على الترك ولا على ظهور اشتغال ذلك منكم، قال مقاتل بن حيان: كان ذلك عشر ليال ثم نسخ، وقال الكلبي: ما كانت إلا ساعة من نهار.
وعلى كل منهما فهي لم تتصل بما قبلها نزولًا وإن اتصلت بها تلاوة وحلولًا {فأقيموا} بسبب العفو عنكم شكرًا على هذا الكرم والحلم {الصلاة} التي هي طهرة لأرواحكم ووصلة لكم بربكم {وآتوا الزكاة} التي هي نزاهة لأبدانكم وتطهير ونماء لأموالكم وصلة بإخوانكم، ولا تفرطوا في شيء من ذلك فتهملوه، فالصلاة نور تهدي إلى المقاصد الدنيوية والأخروية، وتعين على نوائب الدارين، والصدقة برهان على صحة القصد في الصلاة.
ولما خص أشرف العبادات البدنية وأعلى المناسك المالية، عم فقال حاثًا على زيادة النور والبرهان اللذين بهما تقع المشاكلة في الأخلاق فتكون المناجاة عن أعظم إقبال وإنفاق فقال: {وأطيعوا الله} أي الذي له الكمال كله فلم يشركه في إبداعه لكم على ما أنتم عليه أحد {ورسوله} الذي عظمته من عظمته في سائر ما يأمر به فإنه ما أمركم لأجل إكرام رسولكم صلى الله عليه وسلم إلا بالحنيفية السمحة، وجعل المحافظة على ذلك قائمة مقام ما أمركم به، ثم نسخه عنكم من تقديم الصدقة على النجوى.
ولما كان قد عفا عن أمر أشعر السياق بأنه وقع فيه تفريط، فكان ذلك ربما جرى على انتهاك الحرمات، رهب من جنابه بإحاطة العلم، وعبر بالخبر لأن أول الآية وبخ على أمر باطن ولم يبالغ بتقديم الجار لما فيها من الأمور الظاهرة.
فقال عاطفًا على ما تقديره: فالله يحب الذين يطيعون: {والله} أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلمًا {خبير بما تعملون} أي تجددون عمله، يعلم بواطنه كما يعلم ظواهره. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} فيه مسائل:
المسألة الأولى:
هذا التكليف يشتمل على أنواع من الفوائد أولها: إعظام الرسول عليه السلام وإعظام مناجاته فإن الإنسان إذا وجد الشيء مع المشقة استعظمه، وإن وجده بالسهولة استحقره وثانيها: نفع كثير من الفقراء بتلك الصدقة المقدمة قبل المناجاة وثالثها: قال ابن عباس: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، وأراد الله أن يخفف عن نبيه، فلما نزلت هذه الآية شح كثير من الناس فكفوا عن المسألة ورابعها: قال مقاتل بن حيان: إن الأغنياء غلبوا الفقراء على مجلس النبي عليه الصلاة والسلام وأكثروا من مناجاته حتى كره النبي صلى الله عليه وسلم طول جلوسهم، فأمر الله بالصدقة عند المناجاة، فأما الأغنياء فامتنعوا، وأما الفقراء فلم يجدوا شيئًا، واشتاقوا إلى مجلس الرسول عليه السلام، فتمنوا أن لو كانوا يملكون شيئًا فينفقونه ويصلون إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند هذا التكليف ازدادت درجة الفقراء عند الله، وانحطت درجة الأغنياء وخامسها: يحتمل أن يكون المراد منه التخفيف عليه، لأن أرباب الحاجات كانوا يلحون على الرسول، ويشغلون أوقاته التي هي مقسومة على الإبلاغ إلى الأمة وعلى العبادة، ويحتمل أنه كان في ذلك ما يشغل قلب بعض المؤمنين، لظنه أن فلانًا إنما ناجى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر يقتضي شغل القلب فيما يرجع إلى الدنيا وسادسها: أنه يتميز به محب الآخرة عن محب الدنيا، فإن المال محك الدواعي.
المسألة الثانية:
ظاهر الآية يدل على أن تقديم الصدقة كان واجبًا، لأن الأمر للوجوب، ويتأكد ذلك بقوله في آخر الآية: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فإن ذلك لا يقال إلا فيما بفقده يزول وجوبه، ومنهم من قال: إن ذلك ما كان واجبًا، بل كان مندوبًا، واحتج عليه بوجهين الأول: أنه تعالى قال: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الفرض والثاني: أنه لو كان ذلك واجبًا لما أزيل وجوبه بكلام متصل به، وهو قوله: {أأشفقتم أَن تُقَدّمُواْ} [المجادلة: 13] إلى آخر الآية والجواب عن الأول: أن المندوب كما يوصف بأنه خير وأطهر، فالواجب أيضًا يوصف بذلك والجواب عن الثاني: أنه لا يلزم من كون الآيتين متصلتين في التلاوة، كونهما متصلتين في النزول، وهذا كما قلنا في الآية الدالة على وجوب الاعتداد بأربعة أشهر وعشرًا، إنها ناسخة للاعتداد بحول، وإن كان الناسخ متقدمًا في التلاوة على المنسوخ، ثم اختلفوا في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ، فقال الكلبي: ما بقي ذلك التكليف إلا ساعة من النهار ثم نسخ، وقال مقاتل بن حيان: بقي ذلك التكليف عشرة أيام ثم نسخ.
المسألة الثالثة:
روي عن علي عليه السلام أنه قال: إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، كان لي دينار فاشتريت به عشرة دراهم، فكلما ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهمًا، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد.
وروي عن ابن جريج والكلبي وعطاء عن ابن عباس: أنهم نهوا عن المناجاة حتى يتصدقوا فلم يناجه أحد إلا علي عليه السلام تصدق بدينار، ثم نزلت الرخصة.
قال القاضي والأكثر في الروايات: أنه عليه السلام تفرد بالتصدق قبل مناجاته، ثم ورد النسخ، وإن كان قد روي أيضًا أن أفاضل الصحابة وجدوا الوقت وما فعلوا ذلك، وإن ثبت أنه اختص بذلك فلأن الوقت لم يتسع لهذا الغرض، وإلا فلا شبهة أن أكابر الصحابة لا يقعدون عن مثله، وأقول على تقدير أن أفاضل الصحابة وجدوا الوقت وما فعلوا ذلك، فهذا لا يجر إليهم طعنًا، وذلك الإقدام على هذا العمل مما يضيق قلب الفقير، فإنه لا يقدر على مثله فيضيق قلبه، ويوحش قلب الغني فإنه لما لم يفعل الغني ذلك وفعله غيره صار ذلك الفعل سببًا للطعن فيمن لم يفعل، فهذا الفعل لما كان سببًا لحزن الفقراء ووحشة الأغنياء، لم يكن في تركه كبير مضرة، لأن الذي يكون سببًا للألفة أولى مما يكون سببًا للوحشة، وأيضًا فهذه المناجاة ليست من الواجبات ولا من الطاعات المندوبة، بل قد بينا أنهم إنما كلفوا بهذه الصدقة ليتركوا هذه المناجاة، ولما كان الأولى بهذه المناجاة أن تكون متروكة لم يكن تركها سببًا للطعن.
المسألة الرابعة:
روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: لما نزلت الآية دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما تقول في دينار؟» قلت: لا يطيقونه، قال: «كم؟» قلت: حبة أو شعيرة، قال: «إنك لزهيد» والمعنى إنك قليل المال فقدرت على حسب حالك.
أما قوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} أي ذلك التقديم في دينكم وأطهر لأن الصدقة طهرة.
أما قوله: {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فالمراد منه الفقراء، وهذا يدل على أن من لم يجد ما يتصدق به كان معفوًا عنه.
المسألة الخامسة:
أنكر أبو مسلم وقوع النسخ وقال: إن المنافقين كانوا يمتنعون من بذل الصدقات، وإن قومًا من المنافقين تركوا النفاق وآمنوا ظاهرًا وباطنًا إيمانًا حقيقيًا، فأراد الله تعالى أن يميزهم عن المنافقين، فأمر بتقديم الصدقة على النجوى ليتميز هؤلاء الذين آمنوا إيمانًا حقيقيًا عمن بقي على نفاقه الأصلي، وإذا كان هذا التكليف لأجل هذه المصلحة المقدرة لذلك الوقت، لا جرم يقدر هذا التكليف بذلك الوقت.
وحاصل قول أبي مسلم: أن ذلك التكليف كان مقدرًا بغاية مخصوصة، فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة، فلا يكون هذا نسخًا، وهذا الكلام حسن ما به بأس، والمشهور عند الجمهور أنه منسوخ بقوله: {أَءشْفَقْتُمْ} ومنهم من قال: إنه منسوخ بوجوب الزكاة.
{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ}
والمعنى أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من إنفاق المال، فإذ لم تفعلوا ما أمرتم به وتاب الله عليكم ورخص لكم في أن لا تفعلوه، فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات.
فإن قيل: ظاهر الآية يدل على تقصير المؤمنين في ذلك التكليف، وبيانه من وجوه أولها: قوله: {أأشفقتم أَن تُقَدّمُواْ} وهو يدل على تقصيرهم وثانيها: قوله: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ} وثالثها: قوله: {وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ} قلنا: ليس الأمر كما قلتم، وذلك لأن القوم لما كلفوا بأن يقدموا الصدقة ويشغلوا بالمناجاة، فلابد من تقديم الصدقة، فمن ترك المناجاة يكون مقصرًا، وأما لو قيل بأنهم ناجوا من غير تقديم الصدقة، فهذا أيضًا غير جائز، لأن المناجاة لا تمكن إلا إذا مكن الرسول من المناجاة، فإذا لم يمكنهم من ذلك لم يقدروا على المناجاة، فعلمنا أن الآية لا تدل على صدور التقصير منهم، فأما قوله: {أَءشْفَقْتُمْ} فلا يمتنع أن الله تعالى علم ضيق صدر كثير منهم عن إعطاء الصدقة في المستقبل لو دام الوجوب، فقال هذا القول، وأما قوله: {وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ} فليس في الآية أنه تاب عليكم من هذا التقصير، بل يحتمل أنكم إذا كنتم تائبين راجعين إلى الله، وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، فقد كفاكم هذا التكليف، أما قوله: {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} يعني محيط بأعمالكم ونياتكم. اهـ.

.قال القرطبي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول} {ناجيتم} ساررتم.
قال ابن عباس: نزلت بسبب أن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقّوا عليه؛ فأراد الله عز وجل أن يخفف عن نبيّه صلى الله عليه وسلم، فلما قال ذلك كفّ كثير من الناس.
ثم وسّع الله عليهم بالآية التي بعدها.
وقال الحسن: نزلت بسبب أن قومًا من المسلمين كانوا يستخلون النبيّ صلى الله عليه وسلم ويناجونه، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى، فشقّ عليهم ذلك فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه.
وقال زيد بن أسلم: نزلت بسبب أن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبيّ صلى الله عليه وسلم ويقولون: إنه أُذن يسمع كل ما قيل له، وكان لا يمنع أحدًا مناجاته.
فكان ذلك يشقّ على المسلمين؛ لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجَوْه بأن جموعًا اجتمعت لقتاله.